حال الصالحين والمؤمنين
وجوه هناك مبيضة مسفرة مستبشرة ضاحكة ناضرة، ووجوه أخرى مسوّدة
باسرة عليها غبرة مرهقة بالقترة، المتقون يحشرون إلى ربهم وفداً، والمجرمون
يساقون يومئذ زرقاً، والشمس تدنو من رؤوس الخلائق حتى لا يكون بينها
وبينهم إلا قدر ميل، ولا ظل لأحد إلا ظل عرش الرحمن، فمن بين مستظل يظل
العرش وبين مضحو بحر الشمس، والأمم تزدحم وتتدافع، فتختلف الأقدام وتنقطع
الأعناق، ويجتمع حر الشمس فيفيض العرق إلى سبعين ذراعاً في الأرض ويستنقع
على وجه الأرض ثم على الأبدان على سرائبهم، منهم من يصل إلى الكعبين، ومنهم
من يلحمه إلجاماً، فيطبق الغم، وتضيق النفس، وتجثو الأمم من الهول على
الركب، وترى كل أمة جاثية، يقول النبي
:
{ يبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون } [متفق عليه].
حال العصاة والكافرين
ويندم العصاة ويتحسرون على تفريطهم في الطاعة، ولشدة حسرتهم يعضون على أيديهم يقول عز وجل:
وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً [الفرقان:27] ويمقت العاصي نفسه وأحبابه وأخلاءه، وتنقل كل محبة لم تقم
على أساس من الدين إلى عداء، ويخاصم المرء أعضاءه، والمتكبرون يحشرون أمثال
الذر، يطؤهم الناس بأقدامهم، احتقاراً لهم، والمسبل إزاره لا يكلمه الله
في ذلك اليوم، ولا ينظر إليه، ولا يزكيه وله عذاب أليم، وتوضع لكل غادر يوم
القيامة راية عند مؤخرته ويقال: هذه غدرة فلان بن فلان، ومن أخذ من الأرض
شيئاً بغير حقه خسف به يوم القيامة إلى سبع أراضين، ويتضاعف يوم القيامة
ظلم الدنيا
{ الظلم ظلمات يوم القيامة } والحقوق لا تضيع، بل يقتص حق المظلوم من الظالم حتى يقاد فيما بين
البهائم، وشر الناس يوم القيامة ذو الوجهين الذي يأتي هؤلاء بوجه وهؤلاء
بوجه، ومن نفّس عن مؤمن كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم
القيامة، ومن يسّر على معسر يسّر الله عليه في الدنيا والآخرة، ومن ستر
مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة، والعادلون على منابر من نور عن يمين
الرحمن، ويبعث كل عبد على ما مات عليه فمن مات محرماً يبعث ملبياً، ومن قتل
في سبيل الله جاء لونه لون الدم والريح ريح المسك، والمؤذنون أطول الناس
أعناقاً يوم القيامة، ولا يسمع مدى صوته شيء إلا شهد له يوم القيامة، ومن
شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة، وكل امرئ في ظل صدقته حتى
يفصل بين الناس. والصراط دحض مزلة فناج عليه، ومخدوش ومكدوس في النار،
والميزان بالقسط لا اختلال فيه، الحساب فيه بمثاقيل الذر
فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ [الزلزلة:8،7] الحمد لله تملؤوه، وسبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم ثقيلتان فيه، يقول عليه الصلاة والسلام:
{ أثقل شيء في الميزان تقوى الله وحسن الخلق } والصحف المطوية تنشر، كم من بلية نسيتها وكم من سيئة أخفيتها تظهر،
والكتاب يقرأ، والجوارح تنطق، والملائكة تشهد، والله شهيد على جميع
الأعمال، يقول تعالى:
وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ [يونس:61] وبعد أن يفرغ الله من الفصل بين البهائم يشرع في الفصل بين
العباد، وأول الأمم يقضى بينها هذه الأمة، كما أنهم أول من يجوز على
الصراط، وأول من يدخل الجنة يقول النبي
:
{ نحن الآخرون السابقون يوم القيامة } وفي رواية:
{ المقضى لهم قبل الخلائق } [رواه مسلم] ويكرم الله عبده محمداً
في الموقف العظيم بإعطائه حوضاً واسع الأرجاء مسيرته شهر، وماؤه أبيض من
اللبن، وأحلى من العسل، وأطيب من المسك، ترى عليه أباريق الذهب والفضة كعدد
نجوم السماء، من شرب منه شربةً لم يظمأ بعدها أبداً، ويرد عليه أقوام من
أمته ثم يحال بينهم فيقول عله الصلاة والسلام:
{ إنهم مني } فيقال: إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك فيقول:
{ سحقاً سحقاً لمن بدل بعدي }